حين عاد الماضي يطرق الباب
لم تكن سلمى تتوقع أن رسالة بسيطة على فيسبوك قد تغيّر مسار حياتها كله. كانت في الرابعة والثلاثين، متزوجة منذ سبع سنوات من يونس، موظف بنكي هادئ الطبع يعيش على إيقاع الأرقام والمواعيد الثابتة. يسكنان في شقة متوسطة بحي يعقوب المنصور في الرباط، ويقتسمان يومهما بين العمل والبيت وزيارات العائلة. كل شيء كان يبدو من الخارج طبيعيًا ومستقرًا: صالون مغربي مرتب، صور زفاف مؤطرة على الجدار، ونباتات صغيرة تسقيها سلمى كل صباح قبل الذهاب إلى عملها في مدرسة خاصة.
لكن السكون الظاهر كان يخفي تعبًا داخليًا لا تُفصح عنه سلمى سوى لدفترها القديم. تكتب فيه أحيانًا شكاواها الصغيرة: قلة الحوار، روتين العشاء الصامت، انشغال يونس الدائم بالهاتف ومجموعات البنك على الواتساب، إحساسها بأنه لا يرى تعبها ولا حاجتها إلى كلمة حنان. كانت تحاول أن تذكّر نفسها بأن الاستقرار نعمة، وأن البيوت لا تقوم على الشغف وحده. ومع ذلك، كان ظلّ فراغ لا اسم له يسكن صدرها.
في مساء خريفي، وبينما كانت تتصفح صور تلاميذها في حفل نهاية الدورة، ظهر إشعار أعلى الشاشة: “طلب صداقة من أمين ش.” توقفت أنفاسها للحظة. أمين… الاسم الذي ظنّت أنه صار جزءًا من ماضي الجامعة. تذكرت الشاب الذي كان يرافقها إلى المكتبة، والضحكات الخفيفة عند السور المحاذي لكلية الآداب. افترقا وقتها بسبب سفره إلى طنجة للعمل وظروف عائلية معقدة، ثم تزوج كل منهما في طريقه الخاص. ضغطت زر القبول دون أن تفكر كثيرًا، ثم أرسلت له تحية مقتضبة: “مرحبا أمين، زمان!”
جاء الرد بسرعة غير متوقعة: “أخيرًا وجدتك يا سلمى. كنت أبحث عنك منذ أشهر.” بدأت الرسائل تتتابع كقطرات مطر خفيف: كيف حالك؟ أين تعملين؟ هل ما زلت تحبين قراءة الروايات؟ كانت الأسئلة بريئة في ظاهرها، لكنها كانت تنكأ ذكريات ناعمة طالما أخفتها سلمى في درج القلب المقفل. شعرت بخفة لم تحس بها منذ زمن، وكأنها تعود لنسخة أصغر من نفسها: سلمى التي تكتب الشعر، وتضحك بلا سبب، وتنتظر مكالمات طويلة في الليل.
في الأيام التالية، اعتادت أن تتبادل معه رسائل صباح الخير قبل أن توقظ زوجها. لم تكن ترى في ذلك خيانة؛ كانت تسميه “حديث صديق قديم”. لكنها بدأت تخفي الهاتف حين يقترب يونس، وتحذف الإشعارات، وتغلق شاشة المحادثة عند دخوله الغرفة. وعندما لاحظ يونس انشغالها المتزايد، سألها مرة بابتسامة باهتة: “واش المدير ديالكم كايشدكم بزاف هاد الأيام؟” هزّت رأسها وقالت: “شوية ضغط فالشغل.” ودفنت نظراتها في المطبخ.
دعاه أمين بعد أسبوعين إلى قهوة في مقهى مطل على نهر أبي رقراق. قالت لنفسها إنها مجرد جلسة لتبادل الأخبار. لكنها حين رأت ملامحه وقد أصبح رجلاً في أوائل الأربعين، بشعر فيه خطوط شيب خفيفة، وغمازة لا تزال تسكن خده الأيسر، أربكها ذلك المزيج العجيب بين الغريب والمألوف. تحدثا عن الجامعة والأصدقاء، وعن طنجة والبحر والضجيج، وعن الرباط وهدوئها الذي يشبه المكتبات. لم يتطرق أي منهما إلى الزواج في البداية، كأنهما يخافان من الاعتراف بأن كلاً منهما صار ينتمي إلى بيت آخر.
عادت سلمى إلى بيتها تلك الليلة وقلبها متخم بأسئلة. نظرت إلى يونس وهو يغط في نومه باكرًا بسبب عمله الصباحي، وفكرت أن الحياة قد تكون ظالمة حين تضع أمامنا بعد سنوات الهدوء شخصًا يجعلنا نتذكر من كنا قبل أن نكبر. في اليوم التالي، كتبت لأمين: “لا أعرف لماذا أشعر بثقل جميل بعد لقائنا.” رد عليها: “لأن ما بيننا لم يمت. فقط نام طويلاً.”
منذ تلك اللحظة، تغيّر إيقاع حياتها. صارت تجد ذرائع صغيرة للخروج: شراء أغراض ناقصة، زيارة صديقة مريضة، درس إضافي لتلميذة تحتاج الدعم. كانت تلتقي أمين مرة في الأسبوع، ثم مرتين، ثم صارت المواعيد تتسلل إلى بعد الظهر. لم يكن بينهما شيء يتجاوز الكلام واللمسات العابرة، لكنها كانت تعرف في قرارة نفسها أن الخط الأحمر قد تم تجاوزه منذ لحظة الكذبة الأولى في وجه يونس.
في إحدى الأمسيات، عاد يونس مبكرًا على غير عادته، فوجد زوجته في الشرفة تبتسم لهاتفها. حاول أن يكسر الجليد بسؤال بسيط: “شنو هاد البسمة الزوينة؟” ارتبكت وقالت بسرعة: “مجموعة المدرسة… دارو نكتة.” اقترب منها وسحب الهاتف برفق ليلقي نظرة، لكنها تراجعت فجأة، فابتعد وهو يقول: “ماشي مشكل، غير سيري وجدي لينا العشاء.” كان في صوته شيء يشبه الجرح. في تلك الليلة، لم يتبادلا سوى جمل الضرورة، وعند منتصف الليل أحسّت سلمى بثقل لا يطاق. أرسلت لأمين: “كاين شي حل لهاد التمزق؟” ردّ بعد دقائق: “الحب ما كيستحملش نص نص… إما نواجهو أو نبقاو نتعذب.” قرأت الجملة مرات، ثم أغلقت الهاتف دون جواب.
اشتدّ الشك في قلب يونس مع توالي الأيام. صار يلاحظ تغيّر رائحة عطر سلمى، وملابسها الجديدة، واهتمامها المفاجئ بتفاصيل مظهرها. لم يكن يريد أن يظلمها، لكنه كان يشعر بشيء ينزلق من بين يديه. استشار صديقه في البنك، فنصحه بأن يفتح حوارًا صريحًا. جمع شجاعته ليلة جمعة، وقال لها وهما على المائدة: “سلمى، واش كاين شي حاجة حابة تقوليها ليا؟ أنا حاس بشي تغيير.” ردّت وهي تقطع الخبز: “غير تعب من الشغل.” قال بهدوء: “غير هادشي؟” قالت: “غير هادشي.” صمتُهما بعدها كان أعلى من أي صراخ.
في عطلة نهاية الأسبوع، اتفق أمين وسلمى على الخروج إلى الجديدة ليمضيا يوماً طويلاً بعيدًا عن العيون. كانت السماء ملبدة بغيوم رقيقة، والبحر يضرب الصخور بإيقاع لا يمل. جلسا على رمل شاطئ سيدي بوزيد، وتحدثا عن المستقبل. قال أمين وهو يرسم خطوطًا على الرمل بإصبعه: “نقدر نكتب بداية جديدة. ماشي عيب إلى قلب الإنسان لقا نفسه مع اللي يفهمه.” سألته سلمى بصوت خافت: “وكتظن فعلاً نقدر نهدمو بيت باش نبنيو آخر؟” قال: “البيوت التي لا يسكنها الفرح، تُهدم من الداخل كل يوم.” لم تُجبه. كان في عينيها خوف كبير من مواجهة الحقيقة.
حين عادت تلك الليلة، كان يونس ينتظرها على الكنبة. أمامه فنجان قهوة سوداء لم يلمسها. قال دون مقدمات: “سلمى، عطيني هاتفك.” نظرت إليه بدهشة مصطنعة، لكنها رأت إصرارًا في عينيه لم تعرفه من قبل. ناولته الهاتف وهي ترتجف. فتح سجل المكالمات والرسائل، فلم يجد شيئًا؛ كانت قد حذفت كل شيء بعناية. ابتسم بسخرية موجوعة وقال: “عارفة، اللي كيبغي يخون كيعرف كيفاش يخبّي. ولكن القلب ما كيعرفش يكذب.” ثم قام واتجه إلى غرفته من دون أن يضيف كلمة واحدة.
في الأيام التالية، حاول يونس أن يختبر نفسه: هل يمكن أن يغفر إن اعترفت؟ لكنه كلما تذكر نظرتها في الشرفة، وارتباكها الغريب، كان يشعر بأن شيئًا انكسر. أما سلمى، فكانت تقف بين عالمين: بيت دافئ فقد فيه الكلام معناه، وحب قديم يطرق الباب بوعد الخلاص. في إحدى الليالي، بعثت لأمين: “لا أستطيع الاستمرار هكذا. لازم نقرر.” اقترح أن يطلبا الطلاق بهدوء، وأن يبدأا حياة جديدة في طنجة حيث يعمل. بقيت الرسالة أمامها كحجر ثقيل. لم تردّ.
بعد أسبوع، وبينما كانت تنظف غرفة النوم، رنّ هاتف يونس. لم يكن من عادته أن يتركه في البيت، لكنّ اجتماعًا طارئًا أجبره على الخروج على عجل. سقط الهاتف من على الكوميدينو، فانفتحت الشاشة على رسالة من رقم مجهول: “أخ يونس، غادي تهبط لينا المصاريف ديال الوالدة ولا لا؟” عرفت سلمى الرقم؛ إنه أخوه من البادية. أعادت الهاتف إلى مكانه، لكنها لاحظت إشعارًا جديدًا من حسابها على فيسبوك كانت قد نسيته مفتوحًا على جهازه اللوحي. تجمدت الدماء في عروقها. كان يونس قد قرأ جزءًا من محادثاتها القديمة مع أمين ليلة سابقة حين كانت نائمة، ثم أغلق الجهاز ولم يواجهها، ربما لأنه خاف من الحقيقة، وربما لأنه كان ينتظر اعترافها.
في المساء، عاد يونس متعبًا. كانت تنوي أن تصارحه، لكن الخوف قيّد لسانها. تناولا العشاء بصمت، ثم جلسا أمام التلفاز. فجأة قال: “سلمى، واش ممكن نبداو من جديد؟” نظرت إليه بذهول. أكمل: “أنا عارف أني قصّرت بزاف… الخدمة خذاتني… ونسيتك مرات كثيرة. ولكن نقدر نصلح.” شعرت بدموع تسخن عينيها. لو كانت سمعت هذه الجملة قبل شهرين ربما كان كل شيء تغيّر. لكنها الآن أصبحت أسيرة وعدين متناقضين: وعد بيتها أن يبقى، ووعد قلبها أن يتحرر.
قررت في اليوم التالي أن تزور صديقتها المقربة هند. حكت لها كل شيء من البداية، من رسائل فيسبوك إلى رحلة الجديدة. صمتت هند طويلاً ثم قالت: “سلمى، ماشي ساهل تعيشي مع قلبك ضد عقلك. لكن راه الخيانة حرّكت داخلك حاجة كانت ناعسة: حاجتك للإنصات والاهتمام. سيري تكلمي مع يونس بصراحة. إلى بغيتي الفراق، خليه فراق نظيف. الماضي جميل، لكن ماشي كل باب كينفتح علينا خاصنا ندخلوه.” خرجت سلمى من عندها بخطوات متثاقلة، لكنها كانت تعرف أن الصمت لم يعد خيارًا.
في تلك الليلة، جلست مع يونس على المائدة بعد أن نامت المدينة. قالت: “خاصني نقولك شي حاجة، مهما كانت مؤلمة.” نظر إليها بتوجس. أخذت نفسًا عميقًا وبدأت تحكي: عن أمين، عن الرسائل، عن اللقاءات، عن تمزقها بين ذنب واحتياج. لم تبرر، ولم تتهمه، فقط روت. ظل يونس صامتًا، وكلما ظنّت أنه سيقاطعها، كان يومئ برأسه أن تواصل. عندما انتهت، بدا عليه التعب الشديد. قال بصوت مبحوح: “شكراً لأنك قلتي الحقيقة. كنت عارف، ولكن كنت كنتمنى نكون غلطان.” سألته وهي تبكي: “شنو غندير دابا؟” قال: “غادي ناخدو وقت. أنا بحاجة نفهم واش نقدر نسمح… وانتِ خاصك تفهمي واش بغيتي تبقي هنا.”
مرت أسابيع ثقيلة. قرّرا أن يزورا مستشارًا أسريًا. في الجلسة الأولى، تحدث يونس عن خوفه من الخسارة وعن عجزه عن التعبير. تحدثت سلمى عن جفاف الأيام وعن شعورها بأنها غير مرئية. أشارت المستشارة إلى أن الخيانة، رغم قسوتها، قد تكون أحيانًا جرس إنذار يفضح خللاً عميقًا. اقترحت قواعد: هاتف يُترك خارج غرفة النوم، موعد أسبوعي للحوار، رحلة قصيرة كل شهرين، وإعادة توزيع للأدوار في البيت. وافقا، لكن الطريق كان طويلًا.
أما أمين، فكان يبعث رسائل متقطعة: “غي كتسناي شنو؟” ثم “راه العمر كيجري.” قرأت سلمى رسائله في صمت ثم كتبت له أخيرًا: “أنا محتاجة نواجه نفسي قبل ما نختار أي شخص. إذا كان لينا نصيب، غادي نلقاه بطريقة ما فيهاش خيانة.” لم يجب. ربما فهم الرسالة، وربما أدار ظهره للمشهد كله.
بعد ثلاثة أشهر، كان في بيت سلمى ويونس شيء من الدفء الذي افتقداه. لم تختفِ الجراح، لكنها لم تعد تنزف كل يوم. كانا يتعلمان لغة جديدة: يونس يتكلم أكثر، يضحك بلا تحفظ، يحكي عن قلقه في العمل. وسلمى تتعلم أن تطلب ما تحتاج إليه بلا التفاف. في إحدى الأمسيات، فاجأها بحجز لليلة في أصيلة. جلسا على سور البحر، والمدينة تلمع هادئة. قالت له: “شكراً لأنك عطيتنا فرصة.” أجاب: “شكراً لأنك قلتي الحقيقة.” ثم سكتا طويلاً وهما يراقبان الأمواج.
لكن الحياة ليست فيلمًا ينتهي بمشهد واحد. بعد عام تقريبًا، وصلتها دعوة زفاف عبر فيسبوك: “أمين ش. يحتفل بزواجه.” شعرت بوخزة خفيفة، لكنها لم تكن وخزة ندم؛ كانت أقرب إلى تحية وداع لنسخة قديمة منها. أغلقت الهاتف، واتجهت إلى المطبخ حيث كان يونس يحاول أن يتعلم وصفة جديدة. ضحكا حين ملأ الدخان المطبخ، ثم فتحت النافذة ليدخل بعض الهواء.
تعلمت سلمى أن الحب لا ينجو دائمًا، لكنه أحيانًا يُعاد بناؤه كمنزل رممته بعناية. وتعلم يونس أن الصمت الطويل يقتل، وأن الاعتناء بالبيت ليس شراء الثلاجة الأحدث فقط، بل سؤال بسيط في آخر الليل: “كيف كان يومك؟” أما الخيانة، فقد بقيت ندبة لا تختفي، لكنها لم تعد جدارًا بينهما. كانت تذكيرًا قاسيًا بأن القلب إن عطش، يبحث عن الماء ولو في سراب، وأن السبيل الأصدق هو أن نطلب ما نحتاجه قبل أن نضيع في طرق ملتوية.
لم تصبح حياتهما مثالية. كانت هناك أيام يعود فيها التعب، وأخرى يتنازعان فيها على أمور صغيرة. لكنهما يمتلكان الآن مفردات جديدة، وزادًا من الصراحة، واتفاقًا غير مكتوب بأن الماضي لا يعود إلا حين نسمح له. حين يسألها دفترها القديم: “هل ما زلتِ وحيدة؟” تبتسم وتكتب: “أحيانًا، لكنني صرت أعرف الطريق إلى الحوار قبل أن أفكر في الهرب.”
وهكذا، لم تكن قصة سلمى حكاية عن سقوط وانهيار فقط، بل عن مواجهة ذات، واعتراف، ومحاولة بناء. لقد أدركت أن الماضي حين يطرق الباب، لا يفرض نفسه؛ نحن من نفتحه له أو نغلقه. وأن البيوت، حتى حين تتشقق، يمكن أن تُرمم إذا اجتمع ساكنوها على الصدق والإرادة. أما الحب، فليس وعدًا أبدياً بعد خاتم الزفاف، بل عمل يومي صغير: كلمة، نظرة، يد تمتدّ قبل أن يشتدّ الظلام.
ملاحظة للنشر: يمكنك إضافة صورة غلاف مناسبة في أعلى المقال (زوجان يجلسان في غرفة مع إضاءة دافئة)، ووضع وصف بديل للصورة: صورة تعبر عن صراع عاطفي بين زوجين لتحسين الظهور في محركات البحث.